الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
وقرا ابن أبي عبلة: {غير ناظرين إناه}. مجرورا صفة ل {طَعامٍ}. الزمخشري: وليس بالوجه، لأنه جرى على غير ما هو له، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ، فيقال: غير ناظرين، إناه أنتم، كقولك: هند زيد ضاربته هي. وأنى بفتحها، وأناء بفتح الهمزة والمد قال الحطيئة: يعني إلى طلوع سهيل. وإناه مصدر أنى الشيء يأنى إذا فرغ وحان وأدرك.الرابعة: قوله تعالى: {وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} فأكد المنع، وخص وقت الدخول بأن يكون عند الاذن على جهة الأدب، وحفظ الحضرة الكريمة من المباسطة المكروهة. قال ابن العربي: وتقدير الكلام: ولكن إذا دعيتم وأذن لكم في الدخول فأدخلوا، وإلا فنفس الدعوة لا تكون إذنا كافيا في الدخول. والفاء في جواب {إِذا} لازمة لما فيها من معنى المجازاة.الخامسة: قوله تعالى: {فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} أمر تعالى بعد الإطعام بأن يتفرق جميعهم وينتشروا. والمراد إلزام الخروج من المنزل عند انقضاء المقصود من الأكل. والدليل على ذلك أن الدخول حرام، وإنما جاز لأجل الأكل، فإذا انقضى الأكل زال السبب المبيح وعاد التحريم إلى أصله.السادسة: في هذه الآية دليل على أن الضيف يأكل على ملك المضيف لا على ملك نفسه، لأنه قال: {فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} فلم يجعل له أكثر من الأكل، ولا أضاف إليه سواه، وبقي الملك على أصله.السابعة: قوله تعالى: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} عطف على قوله: {غَيْرَ ناظِرِينَ} و{غَيْرَ} منصوبة على الحال من الكاف والميم في {لَكُمْ} أي غير ناظرين ولا مستأنسين، والمعنى، المقصود: لا تمكثوا مستأنسين بالحديث كما فعل أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وليمة زينب. {إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} أي لا يمتنع من بيانه وإظهاره. ولما كان ذلك يقع من البشر لعلة الاستحياء نفي عن الله تعالى العلة الموجبة لذلك في البشر.وفي الصحيح عن أم سلمة قالت: جاءت أم سليم إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا رأت الماء».الثامنة: قوله تعالى: {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً} الآية. روى أبو داود الطيالسي عن أنس بن مالك قال قال عمر: وافقت ربي في أربع...، الحديث. وفيه: قلت يا رسول الله، لو ضربت على نسائك الحجاب، فإنه يدخل عليهن البر والفاجر، فأنزل الله عز وجل: {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ}. واختلف في المتاع، فقيل: ما يتمتع به من العواري.وقال فتوى. وقيل صحف القرآن. والصواب أنه عام في جميع ما يمكن أن يطلب من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا.التاسعة: في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب، في حاجة تعرض، أو مسألة يستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة، بدنها وصوتها، كما تقدم، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعرض وتعين عندها.العاشرة: استدل بعض العلماء بأخذ الناس عن أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وراء حجاب على جواز شهادة الأعمى، وبأن الأعمى يطأ زوجته بمعرفته بكلامها. وعلى إجازة شهادته أكثر العلماء، ولم يجزها أبو حنيفة والشافعي وغيرهما. قال أبو حنيفة: تجوز في الأنساب.وقال الشافعي: لا تجوز إلا فيما رآه قبل ذهاب بصره.الحادية عشرة: قوله تعالى: {ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} يريد من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال، أي ذلك أنفى للريبة وأبعد للتهمة وأقوى في الحماية. وهذا يدل على أنه لا ينبغي لاحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له فإن مجانبة ذلك أحسن لحاله وأحصن لنفسه وأتم لعصمته.الثانية عشرة: قوله تعالى: {وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} الآية. هذا تكرار للعلة وتأكيد لحكمها، وتأكيد العلل أقوى في الأحكام.الثالثة عشرة: قوله تعالى: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً} روى إسماعيل ابن إسحاق قال حدثنا محمد بن عبيد قال حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة أن رجلا قال: لو قبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوجت عائشة، فأنزل، الله تعالى: {وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} الآية. ونزلت: {وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ} [الأحزاب 6].وقال القشيري أبو نصر عبد الرحمن: قال ابن عباس قال رجل من سادات قريش من العشرة الذين كانوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حراء- في نفسه- لو توفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتزوجت عائشة، وهي بنت عمي. قال مقاتل: هو طلحة بن عبيد الله. قال ابن عباس: وندم هذا الرجل على ما حدث به في نفسه، فمشى إلى مكة على رجليه وحمل على عشرة أفراس في سبيل الله، وأعتق رقيقا فكفر الله عنه.وقال ابن عطية: روي أنها نزلت بسبب أن بعض الصحابة قال: لو مات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتزوجت عائشة، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتأذى به، هكذا كني عنه ابن عباس ببعض الصحابة.وحكى مكي عن معمر أنه قال: هو طلحة بن عبيد الله.قلت: وكذا حكى النحاس عن معمر أنه طلحة، ولا يصح. قال ابن عطية: لله در ابن عباس! وهذا عندي لا يصح على طلحة بن عبيد الله. قال شيخنا الامام أبو العباس: وقد حكى هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة، وحاشاهم عن مثله! والكذب في نقله، وإنما يليق مثل هذا القول بالمنافقين الجهال. يروى أن رجلا من المنافقين قال حين تزوج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم سلمة بعد أبي سلمة، وحفصة بعد خنيس بن حذافة: ما بال محمد يتزوج نساءنا! والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه، فنزلت الآية في هذا، فحرم الله نكاح أزواجه من بعده، وجعل لهن حكم الأمهات. وهذا من خصائصه تمييزا لشرفه وتنبيها على مرتبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الشافعي رحمه الله: وأزواجه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللاتي مات عنهن لا يحل لاحد نكاحهن، ومن استحل ذلك كان كافرا، لقوله تعالى: {وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً}. وقد قيل: إنما منع من التزوج بزوجاته، لأنهن أزواجه في الجنة، وأن المرأة في الجنة لآخر أزواجها. قال حذيفة لامرأته: إن سرك أن تكوني زوجتي في الجنة إن جمعنا الله فيها فلا تزوجي من بعدي، فإن المرأة لآخر أزواجها. وقد ذكرنا ما للعلماء في هذا في كتاب التذكرة من أبواب الجنة.الرابعة عشرة: اختلف العلماء في أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد موته، هل بقين أزواجا أم زال النكاح بالموت، وإذا زال النكاح بالموت فهل عليهن عدة أم لا؟ فقيل: عليهن العدة، لأنه توفي عنهن، والعدة عبادة.وقيل: لا عدة عليهن، لأنها مدة تربص لا ينتظر بها الإباحة. وهو الصحيح، لقوله عليه السلام: «ما تركت بعد نفقة عيالي» وروي: «أهلي» وهذا أسم خاص بالزوجية، فأبقى عليهن النفقة والسكنى مدة حياتهن لكونهن نساءه، وحرمن على غيره، وهذا هو معنى بقاء النكاح. وإنما جعل الموت في حقه عليه السلام لهن بمنزلة المغيب في حق غيره، لكونهن أزواجا له في الآخرة قطعا بخلاف سائر الناس، لان الرجل لا يعلم كونه مع أهله في دار واحدة، فربما كان أحدهما في الجنة والآخر في النار، فبهذا انقطع السبب في حق الخلق وبقي في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد قال عليه السلام: «زوجاتي في الدنيا هن زوجاتي في الآخرة».وقال عليه السلام: «كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي ونسبي فإنه باق إلى يوم القيامة». فرع- فأما زوجاته عليه السلام اللاتي فارقهن في حياته مثل الكلبية وغيرها، فهل كان يحل لغيره نكاحهن؟ فيه خلاف. والصحيح جواز ذلك، لما روي أن الكلبية التي فارقها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوجها عكرمة بن أبي جهل على ما تقدم.وقيل: إن الذي تزوجها الأشعث بن قيس الكندي. قال القاضي أبو الطيب: الذي تزوجها مهاجر بن أبي أمية، ولم ينكر ذلك أحد، فدل على أنه إجماع.الخامسة عشرة: قوله تعالى: {إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} يعني أذية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو نكاح أزواجه فجعل ذلك من جملة الكبائر ولا ذنب أعظم منه.السادسة عشرة: قد بينا سبب نزول الحجاب من حديث أنس وقول عمر، وكان يقول لسودة إذا خرجت وكانت امرأة طويلة: قد رأيناك يا سودة، حرصا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله آية الحجاب. ولا بعد في نزول الآية عند هذه الأسباب كلها- والله أعلم- بيد أنه لما ماتت زينب بنت جحش قال: لا يشهد جنازتها إلا ذو محرم منها، مراعاة للحجاب الذي نزل بسببها. فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش في القبة، وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة فصنعه عمر. وروي أن ذلك صنع في جنازة فاطمة بنت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
|